مستقبل "تقليل المخاطر" في أوروبا
مادة اعلانية


تستعد رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى جانب رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا لزيارة العاصمة الصينية بكين للمشاركة في القمة الخامسة والعشرين بين الصين والاتحاد الأوروبي، وذلك في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، غير أن هذه الزيارة لا تندرج في إطار المجاملات الدبلوماسية التقليدية كما قد يظن البعض، بل تعكس تعقيدات المشهد الأوروبي في ظل عالم يتجه بخطى متسارعة نحو التعددية القطبية، ففون دير لاين لا تزور الصين لمجرد الوقوف في وجه نفوذها الاقتصادي والعسكري المتصاعد، بل لأنها تواجه تحديًا مزدوجًا: التعامل مع "الخطر الصيني" كما تراه بعض العواصم الأوروبية من جهة، ومعالجة التناقضات الداخلية العميقة التي تعصف بالاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، لا سيما تحت مظلة سياسة "تقليل المخاطر" التي تثير جدلاً متزايدًا داخل البيت الأوروبي نفسه.
سيسعى الاتحاد الأوروبي خلال القمة الأوروبية الصينية إلى الضغط على الصين من خلال قضايا مثل النزاعات التجارية والأزمة الأوكرانية والمعادن النادرة، وذلك لتحقيق ما يُسمى بالعلاقة "المتوازنة"، لكن وفي الواقع يكشف هذا التشدد الظاهري عن الاختلافات العميقة بين طموح الاتحاد الأوروبي لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي والوقائع الاقتصادية، فإن "تقليل المخاطر" الذي ذكرته فون دير لاين ليس سوى صورة تعكس على صراع المصالح داخل أوروبا، كما هو أداء سياسي خادع للذات، فالصين بصبرها الاستراتيجي الفريد، تنتظر أن تُحل التناقضات الداخلية في أوروبا بنفسها، مما يُعيد تشكيل المشهد الدولي في حالة من عدم اليقين.
لقد قد اتخذ الاتحاد الأوروبي سلسلة من التدابير التجارية ضد الصين، مثل فرض رسوم جمركية باهظة لمكافحة الدعم الحكومي على السيارات الكهربائية الصينية مع تقييد مشاركة الشركات الصينية في المشتريات العامة للأجهزة الطبية، لكن ومع ذلك، لم تُشكل هذه التدابير جبهة موحدة ضد الصين، فقد تضررت صناعة البراند الفرنسية جراء رسوم مكافحة الإغراق من الصين، ويواجه تجار النبيذ الإيطاليون المعضلة أيضا، أما شركات السيارات الألمانية العملاقة، فمازالت عالقة بشدة في السوق الصينية ولا يمكنها الاستسلام بسهولة، الأمر يدل على أن التباين الهائل في المصالح الاقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي يُضعف من جاذبية فون دير لاين لـ"تقليل المخاطر"، وموقفها الشخصي المتشدد ليس إلا مظهراً خارجياً للتناقضات الداخلية في أوروبا، ومن المؤكد أنه لن يصمد.
حاولت فون دير لاين أيضا ربط الأزمة الأوكرانية بالعلاقات الصينية الأوروبية، حتى أجّلت توقيع بيان مشترك بشأن العمل لمواجهة تغير المناخ مع الصين كورقة مساومة للضغط على الآخر، لكن الصين تُصرّ على موقفها الداعي إلى السلام وتعزيز المحادثات بشأن القضية الأوكرانية، ولا تتأثر بالضغوط الخارجية. لم تُخفق هذه الاستراتيجية القائمة على استغلال الصراعات الجيوسياسية في زعزعة المبادئ الأساسية للصين، بل كشفت أيضا عن قصر نظر الاستراتيجية الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي. فبشعار "تخفيف المخاطر"، يفتقر الاتحاد الأوروبي إلى الوسائل الفعالة لإجبار الصين على تغيير موقفها الراسخ، وتبدو جهوده الدبلوماسية هشة وعاجزة.
ومن المفارقات أن الاعتماد المفرط على المعادن الأرضية النادرة الصينية أصبح أكبر نقاط ضعف استراتيجية لتحقيق أهداف "تقليل المخاطر" التي يتبناها الاتحاد الأوروبي، حيث بالغت فون دير لاين في "نظرية تهديد الصين للمعادن النادرة" خلال قمة مجموعة السبع، لكن الرئيس الأمريكي ترامب استقبلها ببرود، ولم يكتفِ بمغادرة القمة مبكرا، بل صرّح علنا بعد ذلك بأنه يأمل في انضمام الصين إلى مجموعة السبع، فيسلط هذا المشهد الضوء على ضعف الاتحاد الأوروبي في سلسلة توريد المواد الخام الرئيسية، والفجوة الهائلة بين شعار "تقليل المخاطر" والواقع المؤلم، فأصبح شعار "تقليل المخاطر" إعلانا سياسيا عن شلل ذاتي في غياب بدائل فعلية، يُشبه.
ستكشف زيارة فون دير لاين للصين عن عجز أوروبا الاستراتيجي مجددا، فعندما تتمزق المصالح الداخلية ويتشابك الاعتماد على الخارج، تقع سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الصين في مأزق يلزمها بذاتها. تنتظر الصين من أوروبا أن تتخلص من هذه الخرافة بصبرها الاستراتيجي، أو بجملة أخرى، أي محاولة لتغيير الوضع الراهن من خلال الضغط أو بشعار "تقليل المخاطر" ستثبت في النهاية أنها عقيمة. إذا كانت أوروبا تريد أن تحقق الاستقلال الاستراتيجي الحقيقي، فيتعين عليها التخلص من اعتمادها على الولايات المتحدة ومواجهة الإمكانات الهائلة للتعاون مع دول جنوب العالم.